فصل: تفسير الآية رقم (1)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏أَتَوْا‏}‏ تعجيب من إجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضاً بهذا القول حتى قالوه جميعاً، وقيل‏:‏ إنكار للتواصي أي ما تواصوا به‏.‏

‏{‏بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون‏}‏ إضراب عن أن التواصي جامعهم إلى أن الجامع لهم على ذلك القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة ولم تأل جهداً في البيان فأبوا إلا إباءاً وعناداً ‏{‏فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ‏}‏ على التوالي بعد ما بذلت المجهود وجاوزت في الا بلوغ كل حد معهود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏أَيُّ الذين *قُدِرَ الله تَعَالَى أيمانهم أَوْ المؤمنين المسبحون وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاولين لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون ‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 54‏]‏ الخ، قال‏:‏ أمره الله تعالى أن يتولى عنهم ليعذبهم وعذر محمداً صلى الله عليه وسلم ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَذَكَرَ‏}‏ الخ فنسختها‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والبيهقي في الشعب‏.‏ والضياء في المختارة‏.‏ وجماعة من طريق مجاهد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 54‏]‏ لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنا فنزلت ‏{‏وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين‏}‏ فطابت أنفسنا، وعن قتادة أنهم ظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر فأنزل الله تعالى ‏{‏وَذَكَرَ‏}‏ الخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليله فإن خلقهم لما ذكر سبحانه وتعالى مما يدعوه صلى الله عليه وسلم إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ، ولعل تقديم الجن في الذكر لتقدم خلقهم على خلق الإنس في الوجود، والظاهر أن المراد من يقابلون بهم وبالملائكة عليهم السلام ولم يذكر هؤلاء قيل‏:‏ لأن الأمر فيهم مسلم، أو لأن الآية سيقت لبيان صنيع المكذبين حيث تركوا عبادة الله تعالى وقد خلقوا لها؛ وهذا الترك مما لا يكون فيهم بل هم عباد مكرمون لا يستكبرون عن عبادته عز وجل، وقيل‏:‏ لأنه صلى الله عليه وسلم ليس مبعوثاً إليهم فليس ذكرهم في هذا الحكم مما يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى تذكيرهم، وأنت تعلم أن الأصح عموم البعثة فالأولى ما قيل بدله لاستغنائهم عن التذكير والموعظة، وقيل‏:‏ المراد بالجن ما يتناولهم ونه من الاستتار وهم مستترون عن الانس، وقيل‏:‏ لا يصح ذكرهم في حيز الخلق لأنهم كالأرواح من عالم الأمر المقابل لعالم الخلق، وقد أشير إليهما بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ الخلق والامر‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏ ورد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خالق كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 102‏]‏ و‏{‏لَهُ الخلق والامر‏}‏ ليس كما ظن والعبادة غاية التذلل، والظاهر أن المراد بها ما كانت بالاختيار دون التي بالتسخير الثابتة لجميع المخلوقات وهي الدلالة المنبهة على كونها مخلوقة وأنها خلق فاعل حكيم، ويعبر عنها بالسجود كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والنجم والشجر يَسْجُدَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 6‏]‏ وأل في الجن والانس على المشهور للاستغراق، واللام قيل‏:‏ للغاية والعبارة وإن لم تكن غاية مطلوبة من الخلق لقيام الدليل على أنه عز وجل لم يخلق الجن والإنس لاجلها أي لارادتها منهم إذ لو أرادها سبحانه منهم لم يتخلف ذلك لاستلزام الإرادة الإلهية للمراد كما بين في الأصول مع أن التخلف محقق بالمشاهدة، وأيضاً ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏ يدل على إرادة المعاصي من الكثير ليستحقوا بها جهنم فينافي إرادة العبادة لكن لما كان خلقهم على حالة صالحة للعبادة مستعدة لها حيث ركب سبحانه فيهم عقولاً وجعل لهم حواس ظاهرة وباطنة إلى غير ذلك من وجوه الاستعداد جعل خلقهم مغياً بها مبالغة بتشبيه المعدّ له الشيء بالغاية ومثله شائع في العرف، ألا تراهم يقولون للقوى جسمه‏:‏ هو مخلوق للمصارعة، وللبقر‏:‏ هي مخلوقة للحرث‏.‏

وفي الكشف أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكمالية واللام فيها موضوعها ذلك، وأما الإرادة فليست من مقتضى اللام إلا إذا علم أن الباعث مطلوب في نفسه وعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل فانهم خلقوا بحيث يتأتى منهم العبادة وهدوا إليها وجعلت تلك غاية كمالية لخلقهم، وتعوّق بعضهم عن الوصول إليها لا يمنع كون الغاية غاية، وهذا معنى مكشوف انتهى‏.‏

فتأمل، وقيل‏:‏ المراد بالعبادة التذلل والخضوع بالتسخير، وظاهر أن الكل عابدون إياه تعالى بذلك المعنى لا فرق بين مؤمن، وكافر، وبر، وفاجر، ونحوه ما قيل‏:‏ المعنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليذلوا لقضائي، وقيل‏:‏ المعنى ما خلقتهم إلا ليكونوا عباداً لي، ويراد بالعبد العبد بالايجاد وعموم الوصف عليه ظاهر لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كُلُّ مَن فِى السموات والارض *إِلاَّ اتِى الرحمن عَبْداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 93‏]‏ لكن قيل عليه‏:‏ إن عبد بمعنى صار عبداً ليس من اللغة في شيء، وقيل‏:‏ العبادة بمعنى التوحيد بناءاً على ما روي عن ابن عباس أن كل عبادة في القرآن فهو توحيد فالكل يوحدونه تعالى في الآخرة أما توحيد المؤمن في الدنيا هناك فظاهر، وأما توحيد المشرك فيدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ وعليه قول من قال‏:‏ لا يدخل النار كافر، أو المراد كما قال الكلبي‏:‏ إن المؤمن يوحده في الشدة والرخاء والكافر يوحده سبحانه في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، كما قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 65‏]‏ ولا يخفى بعد ذلك عن الظاهر والسياق، ونقل عن على كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما خلقتهم إلا لآمرهم وأدعوهم للعبادة فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏ فذكر العبادة المسببة شرعاً عن الأمر أو اللازمة له، وأريد سببها أو ملزومها فهو مجاز مرسل، وأنت تعلم أن أمر كل من أفراد الجن وكل من أفراد الإنس غير متحقق لا سيما إذا كان غير المكلفين كالأطفال الذين يموتون قبل زمان التكليف داخلين في العموم، وقال مجاهد‏:‏ إن معنى ‏{‏لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ليعرفون وهو مجاز مرسل أيضاً من إطلاق اسم السبب على المسبب على ما في الإرشاد، ولعل السر فيه التنبية على أن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة قيل‏:‏ وهو حسن لأنهم لو لم يخلقهم عز وجل لم يعرف وجوده وتوحيده سبحانه وتعالى، وقد جاء «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» وتعقب بأن المعرفة الصحيحة لم تتحقق في كل بل بعض قد أنكر وجوده عز وجل كالطبيعيين اليوم فلا بد من القول السابق في توجيه التعليل ثم الخبر بهذا اللفظ ذكره سعد الدين سعيد الفرغاني في منتهى المدارك، وذكر غيره كالشيخ الأكبر في الباب المائة والثمانية والتسعين من الفتوحات بلفظ آخر وتعقبه الحفاظ فقال ابن تيمة‏:‏ إنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، وكذا قال الزركشي‏.‏

والحافظ ابن حجر‏.‏ وغيرهما‏:‏ ومن يرويه من الصوفية معترف بعدم ثبوته نقلاً لكن يقول‏:‏ إنه ثابت كشفاً، وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر قدس سره في الباب المذكور، والتصحيح الكشفي شنشنة لهم، ومع ذلك فيه إشكال معنى إلا أنه أجيب عنه ثلاث أجوبة ستأتي إن شاء الله تعالى، وقيل‏:‏ أل في ‏{‏الجن والإنس‏}‏ للعهد، والمراد بهم المؤمنون لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏ الآية أي بناءاً على أن اللام فيها ليست للعاقبة، ونسب هذا القول لزيد بن أسلم‏.‏ وسفيان، وأيد بقوله تعالى قبل‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 55‏]‏ وأيده في البحر برواية ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين» ورواها بعضهم قراءة لابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومن الناس من جعلها للجنس، وقال‏:‏ يكفي ثبوت الحكم له ثبوته لبعض أفراده وهو هنا المؤمنون الطائعون وهو في المآل متحد مع سابقه، ولا إشكال على ذلك في جعل اللام للغاية المطلوبة حقيقة وكذا في جعلها للغرض عند من يجوز تعليل أفعاله تعالى بالأغراض مع بقاء الغني الذاتي وعدم الاستكمال بالغير كما ذهب كثير من السلف، والمحدثين وقد سمعت أن منهم من يقسم الإرادة إلى شرعية تتعلق بالطاعات وتكوينية تتعلق بالمعاصي وغيرها، وعليه يجوز أن يبقي ‏{‏الجن والإنس‏}‏ على شمولها للعاصين، ويقال‏:‏ إن العبادة مرادة منهم أيضاً لكن بالإرادة الشرعية إلا أنه لا يتم إلا إذا كانت هذه الإرادة لا تستلزم وقوع المراد كالارادة التفويضية القائل بها المعتزلة‏.‏

هذا وإذا أحطت خبراً بالأقوال في تفسير هذه الآية هان عليك دفع ما يتراءى من المنافاة بينها وبين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 118، 119‏]‏ على تقدير كون الإشارة إلى الاختلاف بالتزام بعض هاتيك الأقوال فيها، ودفعه بعضهم بكون اللام في تكل الآية للعاقبة والذي ينساق إلى الذهن أن الحصر إضافي أي خلقتهم للعبادة دون ضدها أو دون طلب الرزق والإطعام على ما يشير إليه كلام بعضهم أخذاً من تعقيب ذلك بقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ‏}‏ وهو لبيان أن شأنه تعالى شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، ومالك ملاك العبيد نفي عز وجل أن يكون ملكه إياهم لذلك فكأنه قال سبحانه‏:‏ ما أريد أن استعين بهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي، وذكر الإمام فيه وجهين‏:‏ الأول أن يكون لدفع توهم الحاجة من خلقهم للعبادة، والثاني أن يكون لتقرير كونهم مخلوقين لها، وبين هذا بأن الفعل في العرف لا بد له من منفعة لكن العبيد على قسمين‏:‏ قسم يتخذون لاظهار العظمة بالمثول بين أيادي ساداتهم وتعظيمهم إياهم كعبيد الملوك، وقسم يتخذون للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها، فكأنه قال سبحانه‏:‏ إني خلقتهم ولا بد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك فما أريد منهم من رزق، وهل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباح ومن يقرّب الطعام‏؟‏ وليسوا كذلك وما أريد أن يطعمون‏}‏ فإذا هم عبيد من القسم الأول، فينبغي أن لا يتكروا التعظيم، والظاهر أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي لمكان قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏‏}‏ فإذا هم عبيد من القسم الأول، فينبغي أن لا يتكروا التعظيم، والظاهر أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي لمكان قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ‏}‏ وإليه ذهب الإمام، وذكر في الآية لطائف‏:‏ الأولى أنه سبحانه كرر نفي الإرادتين لأن السيد قد يطلب من العبد التكسب له وهو طلب الرزق وقد لا يطلب حيث كان له مال وافر لكنه يطلب قضاء حواجه من حفظ المال وإحضار الطعام من ماله بين يديه، فنفي الإرادة الأولى لا يستلزم نفي الإرادة الثانية فكرر النهي على معنى لا أريد هذا ولا أريد ذلك، الثانية أن ترتيب النفيين كما تضمنه النظم الجليل من باب الترقي في بيان غناه عز وجل كأنه قال سبحانه‏:‏ لا أطلب منهم رزقاً ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم الطعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثيراً ما يطلب من العبيد إن كان التكسب لا يطلب منهم، الثالثة أنه سبحانه قال‏:‏ ما أريد منهم من رزق دون ما أريد منهم أن يرزقون لأن التكسب لطلب العين لا الفعل، وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ‏}‏ دون ما أريد من طعام لأن ذلك للإشارة إلى الاستغناء عما يفعله العبد الغير المأمور بالتكسب كعبد وافر المال والحاجة إليه للفعل نفسه، الرابعة، أنه جل وعلا خص الاطعام بالذكر لأن أدنى درجات الاستعانة أن يستعين السيد بعبده في تهيئة أمر الطعام ونفي الأدني يتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قيل‏:‏ ما أريد منهم من عين ولا عمل، الخامسة أن ‏{‏مَا‏}‏ لنفي الحال إلا أن المراد به الدنيا وتعرض له دون نفي الاستقبال لأن من المعلوم البين أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو إطعام انتهى، فتأمله‏.‏

ويفهم من ظاهر كلام الزمخشري أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي ولهم، وفي البحر ما أريد منهم من رزق أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ‏}‏ أي أن يطعموا خلقي فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس انتهى، ونحوه ما قيل‏:‏ المعنى ما أريد أن يرزقوا أحداً من خلقي ولا أريد أن يطعموه، وأسند الإطعام إلى نفسه سبحانه لأن الخلق كلهم عيال الله تعالى‏.‏ ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه، وفي الحديث «يا عبدي مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني» فإنه كما يدل عليه آخره على معنى مرض عبدي فلم تعده وجاع فلم تطعمه؛ وقيل‏:‏ الآية مقدرة بقل فتكون بمعنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏ والغيبة فيها رعاية للحكاية إذ في مثل ذلك يجوز الأمر أن الغيبة والخطاب، وقد قرىء بهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 12‏]‏، وقيل‏:‏ المراد قل لهم وفي حقهم فتلائمه الغيبة في ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ و‏{‏يُطْعِمُونِ‏}‏ ولا ينافي ذلك قراءة أني أنا الرزاق فيما بعد لأنه حينئذ تعليل للأمر بالقول، أو الائتمار لا لعدم الإرادة، نعم لا شك في أنه قول بعيد جداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله هُوَ الرزاق‏}‏ الذي يرزق كل مفتقر إلى الرزق لا غيره سبحانه استقلالاً، أو اشتراكاً ويفهم من ذلك استغناؤه عز وجل عن الرزق ‏{‏ذُو القوة أَيُّ *القوة المتين‏}‏ شديد القوة، والجملة تعليل لعدم الإرادة قال الإمام‏:‏ كونه تعالى هو الرزاق ناظر إلى عدم طلب الرزق لأن من يطلبه يكون فقيراً محتاجا؛ وكونه عز وجل هو ذو القوة المتين ناظر إلى عدم طلب العمل المراد من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 57‏]‏ لأن من يطلبه يكون عاجزاً لا قوة له فكأنه قيل‏:‏ ما أريد منهم من رزق لأني أنا الرزاق وما أريد منهم من عمل لأني قوي متين، وكان الظاهر أني أنا الرزاق كما جاء في قراءة له صلى الله عليه وسلم لكن التفت إلى الغيبة، والتعبير بالاسم الجليل لاشتهاره بمعنى المعبودية فيكون في ذلك إشعار بعلة الحكم ولتخرج الآية مخرج المثل كما قيل ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏ والتعبير به على القول بتقدير قل فيما تقدم هو الظاهر، وتحتاج القراءة الأخرى إلى ما ذكرناه آنفاً، وآثر سبحانه ذو القوة على القوى قيل‏:‏ لأن في ‏{‏ذُو‏}‏ كما قال ابن حجر الهيثمي وغيره تعظيم ما أضيفت إليه، والموضوف بها والمقام يقتضيه ولذا جيء بالمتين بعد ولم يكتف به عن الوصف بالقوة؛ وقال الإمام‏:‏ لما كان المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير جيء بوصف الرزق على صيغة المبالغة لأنه بدونها لا يكفي في تقرير عدم إرادة الرزق وبوصف القوة بما لا مبالغة فيه لكفايته في تقرير عدم الاستعانة فإن من له قوة دون الغاية لا يستعين بغيره لكن لما لم يدل ذو القوة على أكثر من أن له تعالى قوة ‏{‏مَا‏}‏ زيد الوصف بالمتين وهو الذي له ثبات لا يتزلزل، ثم قال‏:‏ إن القوى أبلغ من ذي القوة والعزة أكمل من المتانة وقد قرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله هُوَ الرزاق‏}‏ الخ لما اقتضى المقام ذلك، وقد أطال الكلام في هذا المقام وما أظنه يصفو عن كدر، وقرأ ابن محيصن الرازق بزنة الفاعل، وقرأ الأعمش‏.‏ وابن وثاب المتين بالجر، وخرج على أنه صفة القوة، وجاز ذلك مع تذكيره لتأويلها بالاقتدار أو لكونه على زنة المصادر التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، أو لاجرائه مجرى فعيل بمعنى مفعول، وأجاز أبو الفتح أن يكون صفة لذو وجر على الجوار كقولهم هذا حجر ضب خرب وضعف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ‏}‏ أي إذا ثبت أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق إلى آخر ما تقدم فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة وإشراكهم بالله عز وجل وتكذيبهم رسوله عليه الصلاة والسلام وهم أهل مكة وأضرابهم من كفار العرب ‏{‏ذَنُوباً‏}‏ أي نصيباً من العذاب ‏{‏مّثْلَ ذَنُوبِ‏}‏ أي نصيب ‏{‏أصحابهم‏}‏ أي نظرائهم من الأمم السالفة، وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماءاً، أو القريبة من الامتلاء، قال الجوهري‏:‏ ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة، وهي تذكر وتؤنث وجمعها أذنبة وذنائب فاستعيرت للنصيب مطلقاً شراً كان كالنصيب من العذاب في الآية، أو خيراً كما في العطاء في قول علقمة بن عبدة التميمي يمدح الحرث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شأسا يوم عين أباغ‏:‏ وفي كل حي قد خبطت بنعمة *** فحق لشأس من نداك ‏(‏ذنوب‏)‏‏}‏

يروى أن الحرث لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة ومن استعمالها في النصيب قول الآخر‏:‏ لعمرك والمنايا طارقات *** لكل بني أب منها ‏(‏ذنوب‏)‏‏}‏

وهو استعمال شائع، وفي الكشاف هذا تمثيل أصله في السقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال الراجز‏:‏ إنا إذا نازلنا غريب *** له ‏(‏ذنوب‏)‏ ولنا ‏(‏ذنوب‏)‏‏}‏ وإن أبيتم فلنا القليب

‏{‏فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ‏}‏ أي لا يطلبوا مني أن أعجل في الاتيان به يقال استعجله أي حثه على العجلة وطلبها منه، ويقال‏:‏ استعجلت كذا أن طلبت وقوعه بالعجلة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ وهو على ما في الإرشاد جواب لقولهم‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏‏)‏‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ أي فويل لهم، ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وإشعاراً بعلة الحكم، والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذاباً عظيماً كما أن الفاء التي قبلها لترتيب النهي عن الاستعجال على ذلك، و‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِن يَوْمِهِمُ الذى يُوعَدُونَ‏}‏ للتعليل؛ والعائد على الموصول محذوف أي يوعدونه أو يوعدون به على قول، والمراد بذلك اليوم قيل‏:‏ يوم بدر، ورجح بأنه الأوفق لما قبله من حيث أنه ذنوب من العذاب الدنيوي، وقيل‏:‏ يوم القيامة، ورجح بأنه الأنسب لما في صدر السورة الكريمة الآتية، والله تعالى أعلم‏.‏

ومما قاله بعض أهل الإشارة في بعض الآيات‏:‏ ‏{‏والذريات ذَرْواً‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 1‏]‏ إشارة إلى الرياح التي تحمل أنين المشتاقين المتعرضين لنفحات الألطاف إلى ساحات العزة، ثم تأتي بنسيم نفحات الحق إلى مشام المحبين فيجدون راحة مّا من غلبات اللوعة ‏{‏فالحاملات وِقْراً‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 2‏]‏ إشارة إلى سحائب ألطاف الألوهية تحمل أمطار مراحم الربوبية فتمطر على قلوب الصديقين ‏{‏فالجاريات يُسْراً‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 3‏]‏ إشارة إلى سفن أفئدة المحبين تجري برياح العناية في بحر التوحيد على أيسر حال ‏{‏فالمقسمات أَمْراً‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 4‏]‏ إشارة إلى الملائكة النازلين من حظائر القدس بالبشائر والمعارف على قلوب أهل الاستقامة، وإن شئت جعلت الكل إشارة إلى أنواع رياح العناية فمنها ما يطير بالقلوب في جو الغيوب، وقد قال العاشق المجازي‏:‏

خذا من صبا نجد أماناً لقلبه *** فقد كاد رياها يطير بلبه

وإياً كما ذاك النسيم فإنه *** متى هب كان الوجد أيسر خطبه

ومنها ‏{‏فالحاملات وِقْراً‏}‏ دواء قلوب العاشقين كما قيل‏:‏

أيا جبلى نعمان بالله خليا *** نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها

أجد بردها أو تشف مني حرارة *** على كبد لم يبق إلا صميمها

فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت *** على نفس مهموم تجلت همومها

ومنها ‏{‏الجاريات‏}‏ من مهاب حضرات القدس إلى أفئدة أهل الانس بسهولة لتنعش قلوبهم، ومنها ‏{‏المقسمات‏}‏ ما جاءت به مما عبق بها من آثار الحضرة الإلهية على نفوس المستعدين حسب استعداداتهم وإن شئت قلت غير ذلك فالباب واسع ‏{‏لَوَاقِعٌ والسماء ذَاتِ الحبك‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 7‏]‏ إشارة إلى سماء القلب فإنها ذات طرائق إلى الله عز وجل ‏{‏إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 15‏]‏ إشارة إلى جنات الوصال وعيون الحكمة ‏{‏وبالاسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 18‏]‏ يطلبون غفر أي ستر وجودهم بوجود محبوبهم، أو يطلبون غفران ذنب رؤية عبادتهم من أول الليل إلى السحر ‏{‏وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 49‏]‏ إشارة إلى أن جميع ما يرى بارزاً من الموجودا ليس واحداً وحدة حقيقية بل هو مركب ولا أقل من كونه مركباً من الإمكان، وشيء آخر فليس الواحد الحقيقي إلا الله تعالى الذي حقيقته سبحانه إنيته

‏{‏فَفِرُّواْ إِلَى الله‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 50‏]‏ بترك ما سواه عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ أي ليعرفون، وهو عندهم إشارة إلى ما صححوه كشفاً من روايته صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه أنه قال‏:‏ ‏"‏ كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف ‏"‏ وفي كتاب «الأنوار السنية» للسيد نور الدين السمهودي يلفظ ‏"‏ كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت هذا الخلق ليعرفوني في عرفوني ‏"‏ وفي «المقاصد الحسنة» للسخاوي بلفظ‏:‏ ‏"‏ كنت كنزاً لا أعرف فخلقت خلقاً فعرفتهم بي فعرفوني ‏"‏ إلى غير ذلك، وهو مشكل لأن الخفاء أمر نسبي فلا بد فيه من مخفي ومخفى عنه فحيث لم يكن خلق لم يكن مخفى عنه فلا يتحقق الخفاء، وأجيب أولاً‏:‏ بأن الخفاء عن الأعيان الثابة لأن الأشياء في ثبوتها لا إدراك لها وجودياً فكان الله سبحانه مخفياً عنها غير معروف لها معرفة وجودية فأحب أن يعرف معرفة حادثة من موجود حادث فخلق الخلق لأن معرفتهم الوجودية فرع وجودهم فتعرف سبحانه إليهم بأنواع التجليات على حسب تفاوت الاستعدادات فعرفوا أنفسهم بالتجليات فعرفوا الله تعالى من ذلك فبه سبحانه عرفوه، وثانياً‏:‏ بأن المراد بالخفاء لازمه وهو عدم معرفة أحد به جل وعلا، ويؤيده ما في لفظ السخاوي من قوله‏:‏ لا أعرف بدل مخفياً، وثالثاً‏:‏ بأن مخفياً بمعنى ظاهراً من أخفاه أي أظهره على أن الهمزة للإزالة أي أزال خفاءه، وترتيب قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فأحببت أن أعرف‏}‏ الخ عليه باعتبار أن الظهور متى كان قوياً أوجب الجهالة بحال الظاهر فخلق سبحانه الخلق ليكونوا كالحجاب فيتمكن معه من المعرفة، ألا يرى أن الشمس لشدة ظهورها لا تستطيع أكثر الأبصار الوقوف على حالها إلا بواسطة وضع بعض الحجب بينها وبينها وهو كما ترى لا يخلو عن بحث، وأما إطلاق الكنز عليه عز وجل فقد ورد، روى الديلمي في «مسنده» عن أنس مرفوعاً كنز المؤمن ربه أي فإن منه سبحانه كل ما يناله من أمر نفيس في الدارين، والشيخ محيى الدين قدس سره ذكر في معنى الكنز غير ذلك فقال في الباب الثلثمائة والثمانية والخمسين من فتوحاته‏:‏ لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم الحادث في قوله‏:‏ ‏{‏كُنتُ‏}‏ الخ فجعل نفسه كنزاً، والكنز لا يكون إلا مكتنزاً في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزاً فلما ألبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه سبحانه كان مكنوزاً فيه في شيئية ثبوته وو لا يشعر به انتهى، وهو منطق الطير الذي لا نعرفه نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى بمنه وكرمه‏.‏

‏[‏سورة الطور‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏وَالطُّورِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

بسْم الله الرحمن الرَّحيم ‏{‏يُوعَدُونَ والطور‏}‏ الطور اسم لكل جبل على ما قيل‏:‏ في اللغة العربية عند الجمهور، وفي اللغة السريانية عند بعض، ورواه ابن المنذر‏.‏ وابن جرير عن مجاهد، والمراد به هنا ‏{‏طُورِ سِينِينَ‏}‏ الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عنده، ويقال له‏:‏ طور سيناء أيضاً، والمعروف اليوم بذلك ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة، وقال أبو حيان في تفسير سورة ‏{‏والتين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 1‏]‏‏:‏ ولم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه الصلاة والسلام، وقال في تفسيره‏:‏ هذه السورة في الشام جبل يسمى الطور وهو طور سيناء فقال نوف البكالي‏:‏ إنه الذي أقسم الله سبحانه به لفضله على الجبال، قيل‏:‏ وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام انتهى فلا تغفل، وحكى الراغب أنه جبل محيط بالأرض ولا يصح عندي، وقيل‏:‏ جبل من جبال الجنة، وروى فيه ابن مردويه عن أبي هريرة، وعن كثير بن عبد الله حديثاً مرفوعاً ولا أظن صحته، واستظهر أبو حيان أن المراد الجنس لا جبل معين، وروى ذلك عن مجاهد‏.‏ والكلبي، والذي أعول عليه ما قدمته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏وكتاب مُّسْطُورٍ‏}‏ مكتوب على وجه الانتظام فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة، والمراد به على ما قال الفراء الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال ويعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو بشماله وهو المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13‏]‏، وقال الكلبي‏:‏ هو التوراة، وقيل‏:‏ هي‏.‏ والإنجيل‏.‏ والزبور وقيل‏:‏ القرآن، وقيل‏:‏ اللوح المحفوظ، وفي «البحر» لا ينبغي أن يحمل شيء من هذه الأقوال على التعيين وإنما تورد، على الاحتمال، والتنكير قيل‏:‏ للإفراد نوعاً، وذلك على القول بتعدده، أو للإفراد شخصاً، وذلك على القول المقابل، وفائدته الدلالة على اختصاصه من جنس الكتب بأمر يتميز به عن سائرها، والأولى على وجهي التنكير إذا حمل على أحد الكتابين أعني القرآن والتوراة أن يكون من باب ‏{‏لِيَجْزِىَ قَوْماً‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏ ففي التنكير كمال التعريف، والتنبيه على أن ذلك الكتاب لا يخفى نكر أو عرف، ومن هذا القبيل التنكير في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏فِى رَقّ مَّنْشُورٍ‏}‏ والرق بالفتح ويكسر، وبه قرأ أبو السمال جلد رقيق يكتب فيه وجمعه رقوق وأصله على ما في «مجمع البيان» من اللمعان يقال‏.‏ ترقرق الشيء إذا لمع‏.‏ أو من الرقة ضد الصفاقة على ما قيل، وقد تجوز فيه عما يكتب فيه الكتاب من ألواح وغيرها‏.‏ والمنشور المبسوط والوصف به قيل‏:‏ للإشارة إلى صحة الكتاب وسلامته من الخطأ حيث جعل معرضاً لنظر كل ناظر آمنا عليه من الاعتراض لسلامته عما يوجبه، وقيل‏:‏ هو لبيان حاله التي تضمنتها الآية المذكورة آنفاً بناءاً على أن المراد به صحائف الأعمال ولبيان أنه ظاهر للملائكة عليهم السلام يرجعون إليه بسهولة في أمورهم بناءاً على أنه اللوح، أو للناس لا يمنعهم مانع عن مطالعته والاهتداء بهديه بناءاً على الأقوال الأخر، وفي «البحر» ‏{‏مَّنْشُورٍ‏}‏ منسوخ ما بين المشرق والمغرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏والبيت المعمور‏}‏ هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة كما أخرج ذلك ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعاً‏.‏

وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وجماعة عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل علياً كرم الله تعالى وجهه فقال‏:‏ ذلك الضّرَاحُ بين فوق سبع سموات تحت العرض يدخله كل يوم سبعون ألف ملك الخ، وجاء في رواية عنه كرم الله تعالى وجهه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حيال الكعبة بحيث لو سقط سقط عليها‏.‏

وروى عن مجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن زيد أن في كل سماء بحيال الكعبة بيتاً حرمته كحرمتها وعمارته بكثرة الواردين عليه من الملائكة عليهم السلام كما سمعت، وقال الحسن‏:‏ هو الكعبة يعمره الله تعالى كل سنة بستمائة ألف من الناس فإن نقصوا أتم سبحانه العدد من الملائكة، وأنت تعلم أن المجاز المشهور مكان معمور بمعنى مأهول مسكون تحل الناس في محل هو فيه، فعمارة الكعبة بالمجاورين عندها وبحجاجها صح خبر الحسن المذكور أم لا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏والسقف المرفوع‏}‏ أي السماء كما رواه جماعة، وصححه الحاكم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه، وعن ابن عباس هو العرش وهو سقف الجنة، وأخرجه أبو اليخ عن الربيع بن أنس، وعليه لا بأس في تفسير البيت المعمور بالسماء كما روى عن مجاهد، وعمارتها بالملائكة أيضاً فما فيها موضع إهاب إلا وعليه ملك ساجد أو قائم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏والبحر المسجور‏}‏ أي الموقد ناراً‏.‏

أخرج ابن جرير، وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ في العظمة عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ قال علي كرم الله تعالى وجهه لرجل من اليهود‏:‏ أين موضع النار في كتابكم‏؟‏ قال‏:‏ البحر فقال كرم الله تعالى وجهه‏:‏ ما أراه إلا صادقاً، وقرأ ‏{‏والبحر المسجور‏}‏ ‏{‏وَإِذَا البحار سُجّرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 6‏]‏ وبذلك قال مجاهد‏.‏ وشمر بن عطية‏.‏ والضحاك‏.‏ ومحمد بن كعب‏.‏ والأخفش، وقال قتادة‏:‏ المسجور المملوء يقال‏:‏ سجره أي ملأه، والمراد به عند جمع البحر المحيط، وقيل‏:‏ بحر في السماء تحت العرش، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وفي «البحر» إنهما قالا فهي ماء غليظ، ويقال له‏:‏ بحر الحياة بمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتون في قبورهم، وأخرج أبو الشيخ عن الربيع أنه الملأ الأعلى الذي تحت العرش وكأنه أراد به الفضاء الواسع المملوء ملائكة، وعن ابن عباس ‏{‏المسجور‏}‏ الذي ذهب ماؤه، وروى ذو الرمة الشاعر، وليس له كما قيل حديث غير هذا عن الحبر قال‏:‏ خرجت أمة لتستقي فقالت‏:‏ إن الحوض مسجور أي فارغ فيكون من الأضداد، وحمل كلامه رضي الله تعالى عنه على إرادة البحر المعروف، وأن ذهاب مائه يوم القيامة، وفي رواية عنه أنه فسره بالمحبوس، ومنه ساجور الكلب وهي القلادة التي تمسكه وكأنه عني المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع الأرض، أو يغيض فتبقى الأرض خالية منه، وقيل‏:‏ ‏{‏المسجور‏}‏ المختلط، وهو نحو قولهم للخليل المخالط‏:‏ سجير، وجعله الراغب من سجرت التنور لأنه سجير في مودّة صاحبه، والمراد بهذا الاختلاط تلاقي البحار بمياهها واختلاط بعضها ببعض، وعن الربيع اختلاط عذبها بملحها، وقيل‏:‏ احتلاطها بحيوانات الماء، وقيل‏:‏ المفجور أخذاً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا البحار فُجّرَتْ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 3‏]‏ ويحامله ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس من تفسيره بالمرسل، وإذا اعتبر هذا مع ما تقدم عنه آنفاً من تفسير بالمحبوس يكون من الأضداد أيضاً، وقال منبه بن سعيد‏:‏ هو جهنم سميت بحراً لسعتها وتموجها، والجمهور على أن المراد به بحر الدنيا وبه أقول وبأن المسجور بمعنى الموقد، ووجه التناسب بين القرائين بعد تعين ما سيق له الكلام لائح، وهو ههنا إثبات تأكيد عذاب الآخرة وتحقيق كينونته ووقوعه، فأقسم سبحانه له بأمور كلها دالة على كمال قدرته عز وجل مع كونها متعلقة بالمبدأ والمعاد، فالطور لأنه محل مكالمة موسى عليه والسلام، ومهبط آيات البدأ والمعاد يناسب حديث إثبات المعاد وكتاب الأعمال كذلك مع الايمانء إلى أن إيقاع العذاب عدل منه تعالى فقد تحقق، ودون في ‏{‏الكتاب‏}‏ ما يجر إليه قبل، ‏{‏والبيت المعمور‏}‏ لأنه مطاف الرسل السماوية، ومظهر لعظمته تعالى، ومحل لتقديسهم وتسبيحهم إياه جل وعلا، ‏{‏والسقف المرفوع‏}‏ لأنه مستقرهم ومنه تنزل الآيات، وفيه الجنة‏:‏ ‏{‏والبحر المسجور‏}‏ لأنه محل النار، وإذا حمل الكتاب على التوراة كان التناسب مع ما قبله حسب النظر الجليل أظهر ولم يحمله عليها كثير لزعم أن ‏{‏الرق المنشور‏}‏ لا يناسبها لأنها كانت في الألواح، ولا يخفى عليك أن شيوع الرق فيما يكتب فيه الكتاب مطلقاً يضعف هذا الزعم في الجملة، ثم إن المعروف أن التوراة لا يكتبها اليهود اليوم إلا في رق وكأنهم أخذوا ذلك من أسلافهم، وقال الإمام‏:‏ يحتمل أن تكون الحكمة في القسم بالطور‏.‏

والبيت المعمور‏.‏ والبحر المسجور أنها أماكن خلوة لثلاثة أنبياء مع ربهم سبحانه، أما الطور فلموسى عليه السلام وقد خاطب عنده ربه عز وجل بما خاطب، وأما البيت المعمور فلرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال عنده‏:‏ «سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وأما البحر‏:‏ فليونس عليه السلام قال فيه‏:‏ ‏{‏لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏ فلشرفها بذلك أقسم الله تعالى بها، وأما ذكر ‏{‏أُمُّ الكتاب‏}‏ فلأن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب، وأما ذكر السقف المرفوع فلبيان رفعة البيت المعمور ليعلم عظمة شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر وجهاً آخر، ولعمري إنه لم يأت بشيء فيهما، والواو الأولى للقسم وما بعدها على ما قال أبو حيان للعطف، والجملة المقسم عليها قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ‏}‏ أي لكائن على شدّة كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من يحل به من الكفار؛ وفي إضافته إلى الرب مع إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أمان له صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى أن العذاب واقع بمن كذبه، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما واقع بدون لام، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ‏}‏ خبر ثان لان أو صفة ‏{‏لَوَاقِعٌ‏}‏ أو هو جملة معترضة، و‏{‏مِن دَافِعٍ‏}‏ إما مبتدأ للظرف أو مرتفع به على الفاعلية، و‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة للتأكيد ولا يخفى ما في الكلام من تأكيد الحكمة وتقريره؛ وقد روى أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ من أول السورة إلى هنا فبكى ثم بكى حتى عيد من وجعه وكان عشرين يوماً، وأخرج أحمد‏.‏ وسعيد بن منصور‏.‏ وابن سعد عن جبير بن مطعم قال‏:‏ قدمت المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكلمه في أساري بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ ‏{‏والطور‏}‏ إلى ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 1 8‏]‏ فكأنما صدع قلبي، وفي رواية فأسلمت خوفاً من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب، وهو لا يأبى أن يكون المراد الوقوع يوم القيامة ومن غريب ما يحكى أن شخصاً رأى مكتوباً في كفه خمس واوات فعبرت له بخير فسأل ابن سيرين فقال‏:‏ تهيأ لما لايسر فقال له‏:‏ من أين أخذت هذا‏؟‏ فقال‏:‏ من قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والطور‏}‏ إلى ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 1 7‏]‏ فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص، وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً‏}‏ منصوب على الظرفية وناصبه ‏{‏وَاقِعٍ‏}‏ أو ‏{‏دَافِعٍ‏}‏ أو معنى النفي وإيهام أنه لا ينتفي دفعه في غير ذلك اليوم بناءاً على اعتبار المفهوم لا ضير فيه لعدم مخالفته للواقع لأنه تعالى أمهلهم في الدنيا وما أهملهم، ومنع مكي أن يعمل فيه ‏{‏وَاقِعٍ‏}‏ ولم يذكر دليل المنع ولا دليل له فيما يظهر، ومعنى ‏{‏تَمُورُ‏}‏ تضطرب كما قال ابن عباس أن ترتج وهي في مكانها، وفي رواية عنه تشقق، وقال مجاهد‏:‏ تدور، وأصل المور التردد في المجيء والذهاب، وقيل‏:‏ التحرك في تموج، وقيل‏:‏ الجريان السريع، ويقال للجري مطلقاً وأنشدوا للأعشى‏:‏ كأن مشيتها من بيت جارتها *** ‏(‏مور السحابة لا ريث ولا عجل‏)‏‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً‏}‏ عن وجه الأرض فتكون هباءاً منبثاً، والإتيان بالمصدرين للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أي موراً عجيباً وسيراً بديعاً لا يدرك كنههما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي إذا وقع ذلك أو إذا كان الأمر كما ذكر فويل يوم إذ يقع ذلك ‏{‏لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏الذين هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ‏}‏ أي في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب يلهون، وأصل الخوف المشي في الماء ثم تجوز فيه عن الشروع في كل شيء وغلب في الخوض في الباطل كالإحضار عام في كل شيء ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا‏}‏ أي يدفعون دفعاً عنيفاً شديداً بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار ويطرحون فيها، وقرأ زيد بن علي‏.‏ والسلمي‏.‏ وأبو رجاء ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ بسكون الدار وفتح العين من الدعاء فيكون ‏{‏دَعًّا‏}‏ حالاً أي ينادون إليها مدعوعين و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ إما بدل من ‏{‏يوم تَمُورُ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 9‏]‏ أو ظرف لقول مقدر محكي به قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ‏}‏ أي فيقال لهم ذلك ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ الخ، ومعنى التكذيب بها تكذيبهم بالوحي الناطق بها، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَسِحْرٌ هذا‏}‏ توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحراً كأنه قيل‏:‏ كنتم تقولون للوحي الذي أنذركم بهذا سحراً أفهذا المصدق له سحر أيضاً وتقديم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والمدار للتوبيخ‏.‏

‏{‏أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ أي أم أنتم عمي عن المخبر به كما كنتم في الدنيا عمياً عن الخبر والفاء مؤذنة بما ذكر وذلك لأنها لما كانت تقتضي معطوفاً عليه يصح ترتب الجملة أعني سحر هذا عليه وكانت هذه جملة واردة تقريعاً مثل ‏{‏هذه النار‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 14‏]‏ الخ لم يكن بد من تقدير ذلك على وجه يصح الترتب ويكون مدلولاً عليه من السياق فقدّر كنتم تقولون إلى آخره، ودل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 14‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 12‏]‏ وفي «الكشف» إن هذا نظير ما تستدل بحجة فيقول الخصم‏:‏ هذا باطل فتأتى بحجة أوضح من الأول مسكتة وتقول‏:‏ أفباطل هذا‏؟‏ا تعيره بالإلزام بأن مقالته الأولى كانت باطلة، وفي مثله جاز أن يقدر القول على معنى أفتقول باطل هذا وأن لا يقدر لابتنائه على كلام الخصم وهذا أبلغ، و‏{‏أَمْ‏}‏ كما هو الظاهر منقطعة، وفي «البحر» لما قيل لهم‏:‏ هذه النار وقفوا على الجهتين اللتين يمكن منهما دخول الشك في أنها النار وهي إما أن يكون ثمّ سحر يلبس ذات المرأى، وإما أن يكون في ناظر الناظر اختلال، والظاهر أنه جعل ‏{‏أَمْ‏}‏ معادلة والأول أبعد مغزى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏سَوَاء عَلَيْكُمْ‏}‏ أي الأمران سواء عليكم في عدم النفع إذ كل لا يدفع العذاب ولا يخففه فسواء خبر مبتدأ محذوف وصح الإخبار به عن المثنى لأنه مصدر في الأصل، وجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر وليس بذاك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ تعليل للاستواء فإن الجزاء حيث كان متحتم الوقوع لسبق الوعيد به وقضائه سبحانه إياه بمقتضى عدله كان الصبر ودمه مستويين في عدم النفع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ المتقين فِى جنات وَنَعِيمٍ‏}‏ شروع في ذكر حال المؤمنين بعد ذكر حال الكافرين كما هو عادة القرآن الجليل في «الترهيب والترغيب»، وجوز أن يكون من جملة المقول للكفار إذ ذاك زيادة في غمهم وتنكيدهم والأول أظهر، والتنوين في الموضعين للتعظيم أي في جنات عظيمة ونعيم عظيم، وجوز أن يكون للنوعية أي نوع من الجنات، ونوع من النعيم مخصوصين بهم وكونه عوضاً عن المضاف إليه أي جناتهم ونعيمهم ليس بالقوى كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏فاكهين‏}‏ متلذذين ‏{‏بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ‏}‏ من الإحسان، وقرىء فكهين بلا ألف، ونصبه في القراءتين على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أعني ‏{‏في جنات‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 17‏]‏ الواقع خبراً لأن، وقرأ خالد فاكهون بالرفع على أنه الخبر، وفي جنات متعلق به لكنه قدم عليه للاهتمام، ومن أجاز تعدد الخبر أجاز أن يكون خبراً بعد خبر ‏{‏ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم‏}‏ عطف على ‏{‏فِي جنات‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 17‏]‏ على تقدير كونه خبراً كأنه قيل‏:‏ استقروا ‏{‏فِي جنات‏}‏ ‏{‏ووقاهم رَبُّهُمْ‏}‏ الخ، أو على ‏{‏ءاتاهم‏}‏ إن جعلت ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية أي فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم، ولم يجوز كثير عطفه عليه إن جعلت موصولة إذ يكون التقدير فاكهين بالذي وقاهم ربهم فلا يكون راجع إلى الموصول، وجوزه بعض بتقدير الراجع أي وقاهم به على أن الباء للملابسة، وفي «الكشف» لم يحمل على حذف الراجع لكثرة الحذف ولو درج لصاً، والفعل من المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل وهو مسموع عند بعضهم، ولا يخفى أنه وجه سديد أيضاً، والمعنى عليه أسد لأن الفكاهة تلذذ يشتغل به صاحبه والتلذذ بالايتاء يحتمل التجدد باعتبار تعدد المؤتى إما بالوقاية أي على تقدير المصدرية فلا، وأقول لعله هو المنساق إلى الذهن، وجوز أن يكون حالاً بتقدير قد أو بدونه إما من المستكن في الخبر أو في الحال‏.‏ وإما من فاعل آتى‏.‏ أو من مفعوله‏.‏ أو منهما، وإظهار الرب في موقع الإضمار مضافاً إلى ضميرهم للتشريف والتعليل‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏وقاهم‏}‏ بتشديد القاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏دَانِيَةٌ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً‏}‏ أي يقال لهم ‏{‏كُلُواْ واشربوا‏}‏ أكلا وشربا هنيئاً، أو طعاماً وشراباً هنيئاً، فالكلام بتقدير القول، و‏{‏هَنِيئَاً‏}‏ نصب على المصدرية لأنه صفة مصدر‏.‏ أو على أنه مفعول به، وأياً مّا كان فقد تنازعه الفعلان، والهنيء كل ما لا يلحق فيه مشقة ولا يعقب وخامة ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي بسببه أو بمقابلته والباء عليهما متعلق بكلوا واشربوا على التنازع، وجوز الزمخشري كونها زائدة وما بعدها فاعل هنيئاً كما في قول كثير‏:‏ هنيئاً مريئاً غير داء مخامر *** لعزة من أعراضنا ما استحلت

فإن ما فيه فاعل هنيئاً على أنه صفة في الأصل بمعنى المصدر المحذوف فعله وجوباً لكثرة الاستعمال كأنه قيل‏:‏ هنؤ لعزة المستحل من أعراضنا، وحينئذ كما يجوز أن يجعل ما هنا فاعلاً على زيادة الباء على معنى هنأكم ما كنتم تعملون يجوز أن يجعل الفاعل مضمراً راجعاً إلى الأكل أو الشرب المدلول عليه بفعله، وفيه أن الزيادة في الفاعل لم تثبت سماعاً في السعة في غير فاعل ‏{‏كفى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏ على خلاف ولا هي قياسية في مثل هذا ومع ذلك يحتاج الكلام إلى تقدير مضاف أي جزاء ما كنتم الخ، وفيه نوع تكلف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ‏}‏ نصب على الحال قال أبو البقاء‏:‏ من الضمير في ‏{‏كُلُواْ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 19‏]‏ أو في ‏{‏وقاهم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 18‏]‏ أو في ‏{‏مَا ءاتاهم‏}‏ أو في ‏{‏فاكهين‏}‏ أو في الظرف يعني ‏{‏في جنات‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 17‏]‏، واستظهر أبو حيان الأخير ‏{‏على سُرُرٍ‏}‏ جمع سرير معروف، ويجمع على أسرّة وهو من السرور إذ كان لأولى النعمة، وتسمية سرير الميت به للتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله تعالى وخلاصه من سجن الدنيا، وقرأ أبو السمال سرر بفتح الراء وهي لغة لكلب في المضعف فراراً من توالي ضمتين مع التضعيف‏.‏

‏{‏مَصْفُوفَةٌ‏}‏ مجعولة على صف وخط مستو ‏{‏وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ‏}‏ أي قرناهم بهن قاله الراغب ثم قال‏:‏ ولم يجىء في القرآن زوجناهم حوراً كما يقال زوجته امرأة تنبيهاً على أن ذلك لا يكون على حسن المتعارف فيما بيننا من المناكحة، وقال الفراء‏:‏ تزوجت بامرأة لغة أزد شنوءة، والمشهور أن التزوج متعد إلى مفعول واحد بنفسه والتزويج متعد بنفسه إلى مفعولين، وقيل‏:‏ فيما هنا أن الباء لتضمين الفعل معنى القران أو الإلصاق، واعترض بأنه يقتضي معنى التزويج بالعقد وهو لا يناسب المقام إذ العقد لا يكون في الجنة لأنها ليست دار تكليف أو أنها للسببية والتزويج ليس بمعنى الانكاح بل بمعنى تصييرهم زوجين زوجين أي صيرناهم كذلك بسبب حور عين، وقرأ عكرمة بحور عين على إضافة الموصوف إلى صفته بالتأويل المشهور، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ‏}‏ الخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذي شاركتهم ذريتهم في الايمان، والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم‏}‏ عطف على آمنوا، وقيل اعتراض للتعليل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بإيمان‏}‏ متعلق بالاتباع أي أتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء إما بنفسه بناءاً على تفاوت مراتب نفس الايمان، وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل أعمال الآباء إليه، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الايمان الكامل أصالة لا إلحاقاً قيل‏:‏ هو حال من الذرية، وقيل‏:‏ من الضمير وتنوينه للتعظيم، وقيل‏:‏ منهما وتنوينه للتنكير والمعول عليه ما قدمنا ‏{‏أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ‏}‏ في الدرجة‏.‏ أخرج سعيد بن منصور‏.‏ وهناد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم‏.‏ والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بِهِم عينه ثم قرأ الآية ‏"‏ وأخرجه البزار‏.‏ وابن مردويه عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن مردويه‏.‏ والطبراني عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له‏:‏ إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول‏:‏ يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به ‏"‏ وقرأ ابن عباس الآية، وظاهر الأخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكانهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصالهم بهم أحياناً ولو للزيارة‏.‏ وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عز وجل، وما قيل‏:‏ لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه، وقد يستأنس للتخصيص بما روى عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار، والذرية التابعون لكن لا أظن صحته ‏{‏وَمَا ألتناهم‏}‏ أي وما نقنصا الآباء بهذا الإلحاق ‏{‏مّنْ عَمَلِهِم‏}‏ أي من ثواب عملهم ‏{‏مِن شَىْء‏}‏ أي شيئاً بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان، وقال ابن زيد الضمير عائد على الأبناء أي وما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئاً بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملاً وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الاحتمال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ‏}‏ وإلى الأول ذهب ابن عباس‏.‏ وابن جبير‏.‏ والجمهور‏.‏ والآية على ما ذهب إليه المعظم في الكبار من الذرية، وقال منذر بن سعيد‏:‏ هي في الصغار‏.‏

وروى عن الحبر‏.‏

والضحاك أنهما قالا‏:‏ إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الايمان بآبائهم المؤمنين، وجعل بإيمان عليه متعلقاً بألحقنا أي ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل‏:‏ وكأن من يقول بذلك يفسر ‏{‏واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم‏}‏ بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم، وجوز أن يتعلق بإيمان بابتعتم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعاً لآبائهم فكانوا مؤمنين حكماً لصغرهم وإيمان آبائهم، والصغير يحكم بإيمانه تبعاً لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى، وقيل‏:‏ الموصول معطوف على ‏{‏حور‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 20‏]‏، والمعنى قرناهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور؛ وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعتهم‏}‏ عطف على ‏{‏زوجناهم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 20‏]‏، وقوله سبحانه‏:‏ بإيمان متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلاً عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم، أو بسبب إيمان داني المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل‏:‏ بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم، وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجهاً أول، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس‏.‏ وغيره، وقيل عليه‏:‏ إنه تعصب منه، والإنصاف أن المتبادر الاستئناف، وإن أحسن الأوجه في الآية وأوفقه للمقام ما تقدم‏.‏

وقرأ أبو عمرو ‏{‏وأتبعناهم‏}‏ بقطع الهمزة وفتحها، وإسكان التاء، ونون بعد العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان، وقرأ أيضاً ذرياتهم جمعاً نصباً، وابن عامر كذلك رفعاً، وقرأ ذرياتهم بكسر الذال ‏{‏واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم‏}‏ بتاء الفاعل، ونصب ذريتهم على المفعولية، وقرأ الحسن‏.‏ وابن كثير ألتناهم بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم، وعلى قراءة الجمهور من باب ضرب يضرب، وابن هرمز آلتناهم بالمد من آلت يؤلت، وابن مسعود‏.‏ وأبيّ لتناهم من لات يليت وهي قراءة طلحة‏.‏ والأعمش، ورويت عن شبل‏.‏ وابن كثير، وعن طلحة‏.‏ والأعمش، ورويت عن شبل‏.‏ وابن كثير، وعن طلحة‏.‏ والأعمش أيضاً لتناهم بفتح اللام، قال سهل‏:‏ لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضاً آلتناهم بالمد، وقال‏:‏ لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية وليس كما قال بل نقل أهل اللغة آلت بالمد كما قرأ هرمز، وقرىء وما ولتناهم من ولت يلت، ومعنى الكل واحد، وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلاً قام إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال‏:‏ لا تألت على أمير المؤمنين أي لا تغلظ عليه ‏{‏كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ‏}‏ أي بكسبه وعمله ‏{‏رَهَينٌ‏}‏ أي مرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤدّ الدين فإن كان العمل صالحاً فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز وجل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب، ولذا قال جل وعلا‏:‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أصحاب اليمين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 38، 39‏]‏ فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم‏.‏

ووجه الاتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز وجل وفر عليهم ما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذباً لأنه لم يفك رقبته، وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ البر الرحيم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 28‏]‏ ليكون كلاماً راجعاً إلى حال الفريقين المدعوين‏.‏ والمتقين وإنما جعل متخللاً بين أجزية المتقين عقيب ذكر توفير ما أعدّ لهم، قال في «الكشف»‏:‏ ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضاً ويلزم أن عدم الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الاعتراض تحقيقاً لتوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص، وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلاً على الآباء لا على الأبناء ابتداءاً لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل، وجعله استئنافاً بيانياً لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد، وقيل‏:‏ ‏{‏رَهَينٌ‏}‏ فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرىء بما كسب راهن أي دائم ثابت، وفي «الإرشاد» أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله، ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء، فالجملة تعليل لما قبلها، وأنت تعلم أن فعيلاً بمعنى المفعول أسرع تبادراً إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الاتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وأمددناهم بفاكهة وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ أي وزدناهم على ما كان لهم من مبادىء التنعم وقتاً فوقتاً مما يشتهون من فنون النعماء وألوان الآلاء، وأصل المدّ الجر، ومنه المدّة للوقت الممتد ثم شاع في الزيادة، وغلب الإمداد في المحبوب، والمدّ في المكروه وكونه وقتاً بعد وقت مفهوم المدّ نفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏يتنازعون فِيهَا كَأْساً‏}‏ أي يتجاذبونها في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى بينهم في الدنيا لشدة سرورهم قال الأخطل‏:‏ نازعته طيب الراح الشمول وقد *** صاح الدجاج وحانت وقعة الساري

وقيل‏:‏ التنازع مجاز عن التعاطي، والكأس مؤنث سماعي كالخمر، ولا تسمى كأساً على المشهور إلا إذا امتلأت خمراً أو كانت قريبة من الامتلاء، وقد تطلق على الخمر نفسها مجازاً لعلاقة المجاورة، وقال الراغب‏:‏ الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأساً، وفسرها بعضهم هنا بالإناء بما فيه من الخمر، وبعضهم بالخمر، والأول‏:‏ أوفق بالتجاذب، والثاني‏:‏ بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَّ لَغْوٌ فِيهَا‏}‏ أي في شربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام ‏{‏وَلاَ تَأْثِيمٌ‏}‏ ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف كما هو ديدن الندامى في الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام، وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏لاَّ لَغْوٌ‏}‏ ‏{‏وَلاَ تَأْثِيمٌ‏}‏ بفتحهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي بالكأس ‏{‏غِلْمَانٌ لَّهُمْ‏}‏ أي مماليك مختصون بهم كما يؤذن به اللام ولم يقل غلمانهم بالإضافة لئلا يتوهم أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحداً في الدنيا أن يكون خادماً له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعاً، وقيل‏:‏ أولادهم الذين سبقوهم فالاختصاص بالولادة لا بالملك، وفيه أن التعبير عنهم بالغلمان غير مناسب وكذا نسبة الخدمة إلى الأولاد لا تناسب مقام الامتنان ‏{‏كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ‏}‏ مصون في الصدف لم تنله الأيدي كما قال ابن جبير ووجه الشبه البياض والصفاء، وجوز أن يراد بمكنون مخزون لأنه لا يخزن إلا الحسن الغالي الثمن، أخرج عبد الرزاق‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن قتادة قال‏:‏ «بلغني أنه قيل‏:‏ يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ‏"‏ وروي ‏"‏ أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجىء ألف ببابه لبيك لبيك ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ أي يسأل كل بعض منهم بعضاً آخر عن أحواله وأعماله فيكون كل بعض سائلاً ومسؤولاً لا أنه يسأل بعض معين منهم بعضاً آخر معيناً ثم هذا التساؤل في الجنة كما هو الظاهر، وحكى الطبري عن ابن عباس أنه إذا بعثوا في النفخة الثانية ولا أراه يصح عنه لبعده جداً‏.‏